كيف نوجّه صداقات المراهقة

مقدمة

تُعد مرحلة المراهقة من الفترات الحرجة في حياة الإنسان، حيث تشهد تحولات بيولوجية ونفسية واجتماعية عميقة. ومن أبرز ملامح هذه المرحلة، تزايد أهمية الصداقة في حياة المراهق، إذ يبدأ تدريجياً بالتحول من التعلق بالأسرة إلى تشكيل علاقات خارجية تُرضي حاجته إلى الانتماء والقبول الاجتماعي. تصبح الصداقات في هذه المرحلة ذات تأثير بالغ في تشكيل القيم، والسلوك، والاتجاهات، وحتى في رسم ملامح الهوية الذاتية. ولذا، فإن توجيه صداقات المراهقة بالشكل الصحيح ليس ترفاً تربوياً، بل هو ضرورة ملحة لضمان النمو النفسي والاجتماعي السوي.

أهمية الصداقة في مرحلة المراهقة

الصداقة في هذه المرحلة تُعد بمثابة مرآة يرى فيها المراهق نفسه من خلال الآخر. فهي توفر له الإحساس بالأمان، والدعم العاطفي، والاعتراف بوجوده ككائن مستقل عن أسرته. فالمراهقون يلجؤون إلى أصدقائهم لتبادل الأسرار، والاستشارات، والمشاركة في الهوايات، وحتى التمرد الجماعي في بعض الأحيان. كما تلعب الصداقة دوراً في تنمية مهارات التواصل الاجتماعي، والقدرة على التفاوض، والاحترام المتبادل، وحل النزاعات.

ومع ازدياد الاعتماد على الأصدقاء في اتخاذ القرارات، تتعاظم خطورة هذه العلاقات إذا لم تُوجّه بالشكل المناسب، إذ قد ينجر المراهق وراء أنماط سلوكية منحرفة، أو يتعرض لضغط الأقران الذي يدفعه لتجربة أشياء لا يرضى عنها أصلاً.

العوامل المؤثرة في صداقات المراهقين

تتشكل صداقات المراهقين بفعل عدد من العوامل المتشابكة، منها:

1. البيئة الأسرية

الأسرة المتماسكة، الدافئة، والتي توفر قاعدة آمنة للحوار والانفتاح، تسهم في تزويد المراهق بالثقة الذاتية والقدرة على اختيار أصدقاء إيجابيين. على العكس من ذلك، فإن الأسرة المفككة أو الاستبدادية قد تدفع المراهق للبحث عن الدعم والانتماء خارج البيت، مما يفتح المجال أمام صداقات غير منضبطة.

2. المدرسة والمحيط التعليمي

تُعد المدرسة المحضن الثاني بعد الأسرة، وهي تشكّل حلبة العلاقات الأساسية للمراهق. فالمراهق يقضي فيها ساعات طويلة، يكوّن خلالها صداقات قد تستمر لعقود. وتعتمد جودة هذه الصداقات على ثقافة المدرسة، ومدى تشجيعها للاندماج والتعاون بدلاً من التنافس والتهميش.

3. وسائل التواصل الاجتماعي

في العصر الرقمي، أصبح للفضاء الإلكتروني دور محوري في تشكيل الصداقات، وتوسيع دائرتها إلى ما هو أبعد من الإطار الجغرافي والثقافي التقليدي. ومع إيجابيات هذا الانفتاح، تبرز تحديات مثل التعرض للتنمر الرقمي، أو الانجراف نحو علاقات وهمية قد تكون مضلّلة وخطِرة.

4. النضج النفسي والسمات الشخصية

تلعب الفروق الفردية بين المراهقين دوراً في طبيعة صداقاتهم. فالمراهق الذي يتمتع بدرجة عالية من النضج العاطفي والاستقلالية يكون أكثر انتقائية في اختيار أصدقائه، بينما قد يكون الآخرون عرضة للانقياد بحثاً عن القبول.

خصائص صداقات المراهقة

تمتاز صداقات هذه المرحلة بعدة خصائص تجعلها مختلفة عن صداقات الطفولة أو الرشد:

• الحميمية العالية: يتبادل المراهقون أسراراً واعترافات لا يبوحون بها للبالغين.

• الشعور بالولاء والانتماء: يظهر الولاء كقيمة محورية في الصداقة، وقد يؤدي خرقه إلى قطيعة مفاجئة.

• الحساسية المفرطة للرفض: يبالغ المراهق أحياناً في تأويل تصرفات صديقه على أنها خيانة أو رفض.

• النزعة للتشابه: ينجذب المراهقون إلى أقران يشاركونهم نفس الاهتمامات والمظهر وحتى اللغة.

• التحول السريع: تتغير الصداقات بسرعة مع تغير الاهتمامات أو حتى المزاج العام.

التحديات المرتبطة بصداقات المراهقة

رغم أن الصداقة تُعد من مقومات التوازن النفسي، إلا أن هناك تحديات عدة يجب التنبه لها:

أ. ضغط الأقران

وهو من أخطر التحديات، إذ قد يدفع المراهق لتبني سلوكيات ضارة فقط لإثبات ولائه للمجموعة، مثل التدخين، أو استخدام الألفاظ النابية، أو حتى الانخراط في علاقات عاطفية غير ناضجة.

ب. العلاقات السامة

تُعرف العلاقات السامة بأنها تلك التي تتسم بالتحكم، أو الغيرة المفرطة، أو الاستغلال. وقد يصعب على المراهق التمييز بين الصداقة الصحية والعلاقة السامة، خاصة إن كانت مغطاة بمشاعر قوية.

ج. العزلة الاجتماعية

يفشل بعض المراهقين في تكوين صداقات، إما بسبب الخجل الاجتماعي أو نتيجة التنمر أو النبذ. وتؤدي العزلة إلى مشكلات نفسية خطيرة مثل الاكتئاب وانخفاض تقدير الذات.

د. الارتباط المفرط بصديق واحد

عندما يحصر المراهق علاقاته بصديق واحد فقط، فقد يتعرض إلى أزمات حادة في حال غياب هذا الصديق، أو انتهاء العلاقة، مما يهدد توازنه النفسي والاجتماعي.

استراتيجيات توجيه صداقات المراهقة

يتطلب توجيه صداقات المراهقين مقاربة تربوية شاملة ومتزنة، تتضمن عناصر التثقيف، والدعم، والرقابة غير المباشرة، ومن أبرز هذه الاستراتيجيات:

1. الحوار الدائم مع الأبناء

يجب أن يُبنى هذا الحوار على الثقة لا على التخويف أو الاستجواب. فالمراهق يحتاج إلى أن يشعر بأن هناك بالغاً آمناً يمكنه أن يلجأ إليه دون أن يُدان. يجب الإصغاء إليه حين يتحدث عن أصدقائه، دون مقاطعة أو إصدار أحكام مسبقة.

2. تعليم مهارات اختيار الأصدقاء

ينبغي تزويد المراهق بمعايير واضحة ومقنعة تساعده في تمييز الصديق الحقيقي من المزيف، مثل الصدق، والاحترام المتبادل، والتشجيع على النجاح، والتعاون في الخير. ويمكن استخدام أمثلة واقعية، أو محاكاة مواقف درامية لإيصال الرسائل بطريقة غير مباشرة.

3. المراقبة الذكية غير المباشرة

لا يُنصح بالتجسس المباشر على خصوصيات المراهق، وإنما بمتابعة سلوكياته العامة، ومراقبة التغيرات المفاجئة في مزاجه أو اهتماماته أو علاماته الدراسية، إذ قد تكون مؤشراً على وجود علاقة سلبية.

4. تشجيع الانخراط في الأنشطة الجماعية

مثل النوادي الثقافية أو الرياضية أو التطوعية، حيث يتعرف المراهق على أصدقاء جدد في بيئة آمنة وتحت إشراف راشدين. هذه الأنشطة تعزز لديه الشعور بالانتماء والإنجاز.

5. دعم بناء الهوية الشخصية المستقلة

كلما زادت ثقة المراهق بنفسه، قلّ اعتماده على رأي الآخرين في تحديد قيمته. وبالتالي يصبح أقل عرضة للانقياد الأعمى وراء أصدقاء قد يضرونه. ويمكن تعزيز هذه الثقة عبر تكليفه بمسؤوليات، والثناء على إنجازاته، واحترام اختياراته العقلانية.

6. الاستعانة بالمؤسسات التربوية والنفسية

في بعض الحالات المعقدة، يكون من المفيد الاستعانة بمختص نفسي أو تربوي لتقييم طبيعة علاقات المراهق وتقديم تدخل احترافي. خاصة عندما يتعلق الأمر بعلاقات إدمانية أو عنيفة أو تؤثر على التحصيل الدراسي بشكل خطير.

جدول يوضح الفرق بين الصداقة الصحية والصداقة السامة في مرحلة المراهقة

دور وسائل الإعلام في توجيه صداقات المراهقين

تلعب وسائل الإعلام، التقليدية والرقمية، دوراً مزدوجاً في هذا السياق. فهي من جهة توفر محتوى قد يُحفّز على تكوين صداقات إيجابية، ومن جهة أخرى قد تروج لأنماط سلوكية خطيرة مثل تمجيد العنف أو التسطيح العاطفي. ولذلك يجب تعزيز الوعي النقدي لدى المراهق ليُحسن اختيار المحتوى الإعلامي الذي يتعرض له.

خاتمة

توجيه صداقات المراهقين لا يتم عبر الأوامر أو العقوبات، بل من خلال بناء علاقة تربوية قائمة على الحوار والثقة والدعم المستمر. فالصداقة، إذا ما وُجهت جيداً، تُصبح من أقوى العوامل التي تقي المراهق من الانحرافات وتدعمه في مسيرته نحو النضج. أما إذا تُركت دون توجيه، فقد تُصبح مدخلاً للمخاطر النفسية والاجتماعية. وعليه، فإن التعامل مع هذا الجانب الحساس يتطلب وعياً تربوياً متقدماً، وتعاوناً بين الأسرة، والمدرسة، والمجتمع ككل.

المراجع:

1. إريكسون، إريك. “الهوية: أزمة المراهقين” – مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.

2. هاريس، جوديث. “تأثير الأقران: من يشكل شخصية أبنائنا” – دار الشروق، بيروت.